logo

الأحدث من شبكة النبأ

كيف تتحرر من قيود الحسد وتعيش بسلام؟
كيف تتحرر من قيود الحسد وتعيش بسلام؟

شبكة النبأ

timeمنذ 21 ساعات

  • صحة
  • شبكة النبأ

كيف تتحرر من قيود الحسد وتعيش بسلام؟

قلب الحاسد لا يعرف الفرح بخير يصيب النَّاس، ويُضمر الألم والغضب كلَّما رأى غيره في رخاء أو رفعة، ويتعدَّى ذلك إلى تمنِّي زواله عنهم، أو أن تحلَّ بهم المصائب والنكبات، حتَّى ولو لم ينله منها نفعٌ أو خير؛ وهذه الحالة تعكس خللًا أخلاقيًّا عميقًا، وانفصامًا بين قلب الإنسان وفطرته... بين صراعات النَّفس وتقلبات المشاعر، يطلُّ الحسد كأحد أشدِّ الأمراض القلبيَّة فتكًا بطمأنينة الإنسان وسكينته؛ فهو شعور مرير ينشأ حين تضيق النفوس بما قسمه الله (تعالى) لغيرها، فيفسد العلاقات، ويطفئ نور القلب، ويجعل صاحبه غريبًا وفقيرًا، حتَّى وإن كان غارقًا في النِّعم. لكن هل يمكن التَّخلص من هذا الشعور الثَّقيل؟ وهل يستطيع الإنسان أن يتحرَّر من قيده ليعيش بسلام مع نفسه ومع الآخرين؟ في هذا الموضوع، نغوص في أعماق النَّفس لنفهم طبيعة الحسد، وجذوره، وآثاره، ثمَّ نرشد الخطى إلى طريق الخلاص منه، عبر تقوية الإيمان، وتزكية النَّفس، وتغيير زاوية النَّظر إلى الحياة والنَّاس؛ إنَّها رحلة نحو قلب أنقى، ونفسٍ مطمئنة، وحياة يغمرها الرضا، خالية من المقارنات السامَّة التي تسرق راحة البال. المحور الأوَّل: تعريف الحسد وصفات الحاسد. الحسد لغةً: "يقالُ: حَسَدهُ الشَّيء، وعليهِ يحسدُه، ويَحسُدُه حَسَدًا، وحُسُودًا وحَسادةً، وحَسَده: تمنَّى أن تتَحوَّلَ إليه نعمتُه وفضيلتُه..."(1). وأمَّا اصطلاحًا، فإنَّ الحسد: "حالة نفسيَّة يتمنَّى صاحبها سلب الكمال والنِّعمة التي عند الآخرين سواء أكان يملكها أم لا، وسواء أرادها لنفسه أم لم يردها"، وهذا يختلف عن الغبطة؛ لأنَّ صاحب الغبطة يريد النِّعمة التي توجد لدى الآخرين، أن تكون لنفسه، من دون أن يتمنَّى زوالها عن الآخرين(2). إنَّ التمييز بين الحسد والغبطة ينبع من تأمل دقيق في موقف الإنسان النَّفسي تجاه النعم التي يغدقها الله (تعالى) على غيره من عباده؛ فطبيعة تفاعل النَّفس البشريَّة مع تلك النعم تكشف لنا عن معدنها، وعمق إيمانها، ونقائها من أمراض القلوب. ولتقريب الصورة وتيسير الفهم، يمكننا تصنيف موقف الإنسان عند رؤيته لنعم الله (سبحانه) التي أفاض بها على الآخرين إلى حالتينِ أساسيتينِ: الحالة الأولى: أن يشعر بانقباض في صدره، وضيق في قلبه عند رؤيته للنعمة في يد غيره، فلا يطيق أن يراها تُسعد غيره؛ ويضمر في نفسه أمنية خبيثة بزوالها عنهم، سواء حصل عليها هو أم لم يحصل. الحالة الثَّانية: لا يجد المرء في نفسه ضيقًا من نعمة أنعمَ الله (عزَّ وجلَّ) بها على غيره، ويفرح بها أو يقبلها على الأقل، ولكنَّه في الوقت نفسه يتمنَّى أن يُكرمه الله (تعالى) بمثلها، من دون أن تزول تلك النعمة عن صاحبها. وهذا الشعور النبيل يُعرف بالغبطة، وهو دليل على صفاء القلب، وسمو النفس، وحسن الظنِّ بالله (سبحانه)؛ فالغبطة طموح مشروع، مكلَّل بالدعاء والأمل، منزَّه عن الحقد والعداوة. وهكذا، يتبيَّن الفرق بين الحسد والغبطة في نيَّة الإنسان وتمنيه؛ فالحاسد يريد زوال النِّعمة عن الآخرين، والغبوط يريد لنفسه مثل ما للآخرين من دون أن ينقص من حظهم شيءٌ. - صفات الحاسد: من يتأمَّل في أحاديث الرسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآاله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، ويغوص في كلماتهم النورانيَّة، يجد أنَّ الحسد مرضٌ قلبي خطير له آثار مدمرة على الفرد والمجتمع. وقد رسمت النصوص الشريفة ملامح دقيقة لشخصيَّة الإنسان الحاسد، وكشفت عن صفاته الجوهريَّة التي تجعله موضع تحذير وتنفير؛ ومن هذه الصفات: 1ـ أوَّل ما يكشفه الحسد من صفات صاحبه، أنَّه ساخط على الله (سبحانه وتعالى)، غير راضٍ بقضائه وقدَره، كأنَّما يُعرض بوجهه عن تقديرات الخالق، ويعترض على حكمته في توزيع الأرزاق والمنح؛ فالحاسد يرى في النِّعمة التي أنعمَ الله (تعالى) بها على غيره تقصيرًا في عطائه، وكأنَّ لسان حاله يقول: لماذا ليس لي مثلهم؟ ولماذا أعطوا من هو دوني؟ وقد جاءت هذه الحقيقة واضحة في الحديث الشريف عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا ابْنَ عِمْرَانَ، لَاتَحْسُدَنَّ النَّاسَ عَلى مَا آتَيْتُهُمْ مِنْ فَضْلِي، وَلَاتَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ذلِكَ، وَلَاتُتْبِعْهُ نَفْسَكَ؛ فَإِنَّ الْحَاسِدَ سَاخِطٌ لِنِعَمِي، صَادٌّ لِقَسْمِيَ الَّذِي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادِي، وَمَنْ يَكُ كَذلِكَ، فَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مِنِّي"(3). ومن يتدبر في هذا الحديث سيكتشف أنَّه يحمل تحذيرًا شديدًا، يكشف خطورة الحسد على العقيدة؛ فالحسد موقف اعتراضي على الإرادة الإلهيَّة، ورفض ضمني لما اختاره الله (تعالى) لعباده من أرزاق وأقدار، ومن بلغ هذا المستوى من السخط، فإنَّه قد انسلخ من جوهر العبوديَّة؛ لأنَّ العبد الصادق يرضى بكلِّ ما يقدِّره مولاه له ولغيره، ولا يعترض عليه. 2ـ الحاسد يتمنَّى السوء لغيره؛ لأنَّهم ارتقوا منزلة، أو أكرمهم الله (تعالى) بفضل من فضله. كما أنَّ قلب الحاسد لا يعرف الفرح بخير يصيب النَّاس، ويُضمر الألم والغضب كلَّما رأى غيره في رخاء أو رفعة، ويتعدَّى ذلك إلى تمنِّي زواله عنهم، أو أن تحلَّ بهم المصائب والنكبات، حتَّى ولو لم ينله منها نفعٌ أو خير؛ وهذه الحالة تعكس خللًا أخلاقيًّا عميقًا، وانفصامًا بين قلب الإنسان وفطرته السَّليمة التي تميل إلى الرَّحمة والعطاء؛ ولذلك يُعدّ الحسد من أشدِّ الرذائل الأخلاقية فتكًا؛ لأنَّه يجعل الإنسان يتقرَّب إلى الشَّر ويبتعد عن الرَّحمة، ويحرّك فيه نوازع الكراهية والتشفي، حتَّى لو كان ذلك في الخفاء. إنَّ من يتمنَّى السوء للناس، يفسد قلبه، وتظلم بصيرته، ويعيش في قلق دائم؛ إذ كلُّ نعمة لغيره تصبح بالنسبة له جرحًا لا يندمل؛ فهو في صراع داخلي لا ينتهي، ولا يهدأ له بال إلَّا إذا رأى من كان سعيدًا في كرب، ومن كان مكرَّمًا في ذلّ، ومن كان غنيًا في فقر. "ينقل التَّاريخ أنَّ الحجاج استدعى رجلين أحدهما أناني حسود، والآخر بخيل وقال لهما: ليطلب كلٌّ منكما طلبه فإنِّي أعطيه ما طلب، وأعطي صاحبه ضعف طلبته؛ فلو أنّ أحدكم طلب (1000) دينار أعطي صاحبه (2000) دينار، فليبدأ أحدكما بالطلب فدبَّ التَّردد في نفسيهما إلى أن تقدَّم الأناني وقال: أطلب أن تفقأ عيني اليسرى، فقال الحجاج لماذا؟ فردَّ الأناني الحسود: لكي تعطي صاحبي ضعف ما تعطيني فتفقأ عينيه. فقال الحجاج: ما رأيت طلبة إلَّا هذه الطلبة؟ لماذا لم تطلب مالًا أو منصبًا حتَّى تستفيد منه؟ فقال الأناني: والله أن تفقأ عيني أهون عليَّ من أن أرى صاحبي يأخذ ضعفين، وأنا آخذ نصف ما أخذ"(4). 3ـ من الصفات الخطيرة التي تكشف عن جوهر الحاسد؛ أنَّه منافق في باطنه، مريض في قلبه، وهي صفة أشار إليها الإمام الصادق (عليه السلام) بوضوح في حديثه الشريف: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغْبِطُ وَلَايَحْسُدُ، وَالْمُنَافِقَ يَحْسُدُ وَلَا يَغْبِطُ"(5). وإذا دققت في الحديث ستلاحظ أنَّ الإمام (عليه السلام) يضع معيارًا دقيقًا لتمييز صفاء الإيمان من خبث النفاق؛ فالمؤمن، بقلبه النقي ونفسه السَّليمة، إذا رأى نعمة على أحد من النَّاس، تمنَّى لنفسه مثلها من دون أن يكره وجودها لدى صاحبها، وهذا هو معنى الغبطة، وهو شعور مشرّف لا يحمل ضغينة ولا حقدًا، ويدلُّ على طموح مشروع ونيَّة طاهرة. أمَّا المنافق، فباطنه مملوء بالحقد والغل، ولا يستطيع أن يرى نعمة عند غيره إلَّا وتحركت فيه نوازع الحسد. وهو لا يعرف معنى الغبطة؛ لأنَّ قلبه لا يفرح لخير يصيب النَّاس، ويتألم حين يراهم في عزٍّ أو نجاح أو نعيم؛ لذا قال الإمام الصادق (عليه السلام) بعبارة فاصلة: "والمنافق يحسد، ولا يغبط"؛ لأنَّ الحسد وليد القلوب المظلمة، وهي صفة لا تخرج إلَّا من قلب المنافق. 4ـ الحاسد أسير للدنيا، مولع بزخارفها، شديد التعلُّق بشهواتها ومظاهرها الخادعة؛ فهو لا ينظر إلى النعم بعين الشكر أو بعين الاعتبار، ولكن ينظر بعين الغيرة والتنافس، وكأنَّ الدنيا ساحة صراع يجب أن لا يتفوق عليه فيها أحد. وقد عبّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه النفسيَّة المريضة أبلغ تعبير بقوله: "الْحَاسِدُ لَا يَشْفِيهِ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ"(6). أي أنَّ الحاسد لا يهدأ له بال، ولا تطمئن نفسه، ولا يبرد غيظه، إلَّا إذا رأى النِّعمة قد ارتحلت عن صاحبها، وكأنَّ وجودها في يد غيره عارٌ عليه أو تهديدٌ لمكانته. فهو لا يرضى بأن تُقسم الدنيا على الناس بعدل، ويريدها حكرًا عليه، ولا يتقبل أن يشاركه أحد في جاه أو مال أو علم أو قبول اجتماعي. ومن هنا، فإنّ الحسد في حقيقته مرآة تُظهر عبودية القلب للدنيا، وانغماسه في التنافس المادي السطحي؛ إذ تتحوّل النعم إلى سبب للعداوة لا للمحبَّة، وللتحاسد لا للتعاون؛ فالحاسد لا يسعى للارتقاء بنفسه؛ وإنَّما يتمنَّى أن ينخفض الآخرون ليشعر بالعلو، وهذه نظرة ضيقة لا يعرفها القلب الزاهد، الراضي، المطمئن بما قسم الله (تعالى). 5ـ من الصفات العجيبة التي تميز الحاسد وتدل على اضطرابه، أنه أسيرٌ لخوف دائم، وحزن مستمر، يتمحوران حول من يحسده، لا حول نفسه أو آخرتـه؛ فالحاسد لا يهنأ بعيشه، ولا يطمئن في سكينته؛ لأنَّ عينيه دائمًا شاخصتان إلى ما عند النَّاس، لا إلى ما بين يديه، وكلَّما زادت نعم الله (تعالى) على غيره، ازداد قلقه، وتضاعف حزنه، واشتعلت نار الحسد في قلبه؛ فهو في حالة مراقبة مَرَضيَّة دائمة للمحسود: هل ازداد ماله؟ وهل نجح في أمره؟ وهل نال مدحًا أو منزلة؟ فإن رأى شيئًا من ذلك، اضطرب قلبه، واكتأب صدره، وساورته مشاعر الغضب والحسرة. وهكذا يصبح قلبه حلبة صراع لا يهدأ فيها الحزن، ولا يسكن فيها الخوف؛ لأنَّه يخشى أن يتفوق عليه غيره، أو أن يُكرم أحد سواه. وعلى النقيض تمامًا، نجد قلب المؤمن، الذي لا يخاف إلَّا من الله (تعالى)، ولا يحزن إلَّا بين يديه، مطمئنًا بقضائه، راضيًا بقدره، يعلم أنَّ الأرزاق بيد الله (تعالى)، وأنَّ فضل الله (سبحانه) واسع، يعطي من يشاء ويمنع عمّن يشاء لحكمة يعلمها. 6ـ الغضب على العطاء الإلهي؛ وهذا ما يكشف عنه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله "الْحَسُودُ غَضْبَانُ عَلَى الْقَدَرِ"(7)؛ فالحاسد يغضب على القسمة الإلهية ذاتها، ويعترض – بلسان حاله إن لم يكن بمقاله – على ما كتبه الله (تعالى) من أرزاق، فيكون بذلك جاحدًا لفضل الله (تعالى)، أعمى البصيرة، لا يرى في النِّعم آيات للرحمة والكرم، وإنَّما يراها تمييزًا وظلمًا، والعياذ بالله (سبحانه). المحور الثَّاني: أسباب الحسد ومراتبه. - أسباب الحسد: لقد بيّن العلماء – رضوان الله عليهم – أنَّ الحسد له جذور وأسباب تنمو في باطن النفس حتَّى تستحكم، وتتحوَّل إلى هذا المرض الأخلاقي الخطير؛ ومن أبرز هؤلاء العلماء الذين فصَّلوا القول في هذا الباب، العلَّامة المجلسي (رضوان الله عليه)، فقد حصر أسباب الحسد في سبعة أصول(8)؛ تمثِّل كل واحدة منها خللًا عميقًا في البناء الأخلاقي للإنسان. الأوَّل: العداوة والبغضاء. إذا وُجدت العداوة بين شخصين، نشأ معها الحسد بشكل تلقائي؛ فالبغض يُنتج تمني الضرر، ولا شيء يُؤلم العدو في نظر الحاسد مثل أن يُكرم الله (تعالى) غريمه بنعمة. وكلَّما ازدادت نعمته، ازداد قلب عدوه غيظًا وكمدًا. وهذا النوع من الحسد لا يخرج إلَّا من نفس لا تعرف التسامح، ولم تتربَّ على الصفح وصفاء القلب. اقتلني!! ينقل المحدث الشيخ عباس القمي (رحمة الله عليه)، قصَّة عن الحسد مجملها: "كان أحد النَّاس يحسد جاره كثيرًا، حتَّى وصل به الحال إلى أن يعمل أعمالًا غريبة وعجيبة، بحيث أنَّه في أحد الأيَّام، قال لعبده: إنَّ لي عليك فضلًا كثيرًا، وهل جزاء الإحسان إلَّا الإحسان، وإني أطلب منك طلبًا مهمًا، وأريد منك أن تنفذه. فقال له العبد: ما هو طلبك وسأنفذه؟ قال له الحسود: سوف نذهب إلى سطح الجيران، فاذبحني هناك، وبعد ذلك سوف يطلع النَّاس على أنني قتلت، ويتهمون جارنا بقتلي ويقتلونه قصاصًا!! في البداية رفض العبد أمر سيِّده، ولكن إصرار المولى على عبده جعله يوافق، فقتل سيِّده كما أمره، وبعد ذلك عرف النَّاس بأنَّ فلانًا قُتل، وجثته وجدت في بيت الجيران، فجاءت الشرطة، وألقت القبض على الجار بتهمة القتل، ولكن قبل أن ينفّذ القصاص، جاء العبد، واعترف بكلِّ ما حدث. فأطلق سراح الشَّخص الذي أراد الحاسد الإيقاع به! فكانت النتيجة أن قتل الحسود، دون أن يحقق شيئًاً من أمانيه الخبيثة، فخسر نفسه في الدُّنيا والآخرة(9). الثَّاني: التعزُّز. بعض الناس يرون أنَّ عزّهم ومكانتهم لا تكتمل إلَّا بأن يكونوا في مرتبة أعلى من غيرهم؛ وإن رأوا أحدًا يتقدَّم، أو يُكرَم، أو يُمدح، شعروا بأنَّ ذلك يُنقص من قدرهم، واهتزّ توازنهم النَّفسي. فتراهم يغارون؛ لأنَّهم يرون أنفسهم أحقّ بها من الآخرين. وهذه النفسيَّة لا تنشأ إلَّا من ضعف التوكل، وغياب الرضا بما قسم الله (تعالى). الثَّالث: الكِبر. يرى المتكبر أي فضل على غيره هو إهانة له، وكلَّ رفعة لغيره خفضًا لمقامه؛ لذا فإنَّ الكبر والحسد توأمان لا يفترقان. الرَّابع: العُجب بالنفس. إذا أُعجب الإنسان بنفسه، واستعظم أعماله أو مكانته، ورأى أنَّه لا يستحق أحدٌ غيره ما يُعطى من الخير، أصبح حسودًا من حيث لا يشعر؛ فالعجب يجعل الإنسان يرى نفسه فوق النَّاس، ومن ثمَّ لا يحتمل أن يشاركوه في الخير، فضلًا عن أن يتقدَّموا عليه. الخامس: الخوف من فوات المقاصد. وهو أن يخاف الإنسان أن تؤثِّر نعمة غيره على مصالحه؛ كأن يُعيَّن زميله في منصب كان يتمنَّاه، أو يُفضَّل غيره عليه في أمرٍ ما، فيتمنَّى زوال النعمة خوفًا على مكاسبه الخاصَّة؛ وهذا الحسد أقرب إلى الطبع التجاري في العلاقات، حيث تُقاس الأمور بالمصالح لا بالحقِّ والعدل. السَّادس: حبُّ الرياسة والدُّنيا. من كان قلبه متعلقًا بالدُّنيا، ويلهث وراء الرئاسة والمقام، لا يقوى على رؤية غيره في موضع التقدير أو السيادة؛ لأنَّ ذلك يُهدد طموحه، ويعكِّر عليه استحواذه؛ فكلُّ ظهور لغيره تهديدٌ لمكانته، فيتحوَّل ذلك التهديد إلى حسد دفين، يزداد كلَّما ازداد المحسود إشراقًا. السَّابع: خبث الطينة أو النَّفس. وهو أخطر الأسباب؛ لأنَّ صاحبه لا يحتاج إلى مبرر ظاهر للحسد؛ بل يحسد لمجرَّد أن يرى الخير عند غيره، ولو لم يكن بينه وبينه أي عداوة أو تمايز. فطبعه منحرف، ونفسه مظلمة، لا تُطيق أن ترى أحدًا في نعمة، سواء كانت دنيويَّة أو معنويَّة. وهذا النَّوع من الحسد عميق الجذور، لا يزول إلَّا بجهاد طويل للنفس، وتربيَّة إيمانيَّة مكثفة. - مراتب الحسد: المرتبة الأولى: أسوأ مراتب الحسد هو أن يتمنَّى الإنسان زوال نعمة الآخرين، من دون أن يعود عليه ذلك بأيّ نفع أو فائدة شخصيَّة. وفي هذه الدرجة المظلمة من الحسد، ينطلق الحاسد إلى مرحلة أعمق من الضغينة؛ حيث يطلب زوال النعمة عن المحسود، حتَّى لو لم يحصل هو عليها أو يستفيد منها بأي شكل. إنِّه تمني شؤم غير مُبرّر، يهدف إلى خراب الذات والآخرين معًا؛ إذ يُطفئ نور الرضا، ويُشعل نار الحقد، ويدفع صاحبه إلى الانحراف عن طريق الخير، إلى دروب الظلام والضياع. المرتبة الثَّانية: أن يتمنَّى الإنسان زوال نعمة الآخرين، مع أن تكون هذه النعمة تعود عليه هو بنفس القدر أو حتَّى تفوقها، كما لو تمنَّى زوال بيت شخص معيَّن ليصبح هو مالك ذلك البيت، وفي هذه الدرجة، يتمنَّى الحاسد بأن تزول النِّعمة عن غيره، ويطمح لأن يحلّ محل المحسود، وينتقل إليه الفضل ذاته أو أكثر منه. وهذا النوع من الحسد يُعبِّر عن طمع شديد وجشع قلب، واحتكار الأنعم لا يُرضيه إلَّا لنفسه، وهو خبيث بطبيعته؛ لأنَّ صاحبه يرغب في الاستحواذ عليه، ويُظهر رغبة غير مشروعة في انتزاع ما هو حق للآخرين. وقد نصَّت الشريعة وحذَّرت من هذه المرتبة؛ إذ يُعتبر هذا الحسد من الكبائر التي تفسد الإيمان، وتقود الإنسان إلى الحقد والبغضاء، وإلى مشاعر قاتلة تقتل روح المحبَّة والتآلف بين النَّاس؛ وليس ثمَّة شك في خبث هذه المرتبة من الحسد وفي حرمتها؛ إذ يقول الله (تبارك وتعالى): (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (10). المرتبة الثَّالثة: أن يتمنَّى الإنسان زوال النِّعمة عن صاحبها، ليكون في مستوى واحد من الحرمان مع المحسود؛ إذ يشعر بالعجز عن الوصول إلى مثلها أو كسبها بأي طريقة شرعيَّة، وهذا الحسد ينم عن حالة من الاستسلام للهزيمة النفسيَّة، فبدل أن يسعى بجد واجتهاد لتحصيل النعمة أو تحسين وضعه، يفضِّل أن يُطفئ نورها لدى غيره، ليشعر بالراحة في مستواه أو بمستوى المحسود. وإذا توفرت له الوسيلة، فقد يتحوَّل هذا الشعور إلى سلوك فعلي، يدفعه للسعي في إزالة النِّعمة عن صاحبها، سواء بالسعي للحط من مكانته، أو الإضرار به، أو أي طريقة تفضي إلى نقصان خيره. وهذه المرتبة من الحسد هي انحدار خطير في الأخلاق والقيم؛ لأنَّ الإنسان ينخرط في أعمال قد تضر بالآخرين، وتزرع الفتن بين النَّاس. المرتبة الرَّابعة: تكاد تكون هذه المرتبة مكافئة للمرتبة السَّابقة من حيث طبيعة الشعور بالحسد، إلَّا أنَّ الفارق الأساسي فيها هو أن صاحبها، على الرغم من وجود ميول قويَّة نحو زوال نعمة الآخرين، يتمسَّك برادع الدِّين والعقل، فلا يلجأ إلى الوسائل التي تؤدِّي إلى ذلك الزوال، ولا يرضى عن هذه الميول الشريرة التي تجتاح قلبه، ويوبِّخ نفسه ويعنفها على تلك الأهواء الدفينة، ويغضب من حالته النفسيَّة التي تجعل الحسد يسكن قلبه. فهو على الرَّغم من سقوطه في زلزال الحسد؛ لكنَّه لا يستكين له، ولا يستسلم له، ويدفعه استشعاره بخطره وغضبه عليه إلى التوبة والرجوع إلى الله (تعالى). وينبغي التنبه بحذر شديد إلى أنَّ النفس إذا ابتُليت بأدنى مراتب الحسد، وهي المرتبة الرَّابعة، ولم يجد فيها رادعًا يمنعه من الانزلاق، فإنَّها معرضة لخطر السقوط التدريجي إلى أسوأ وأشد مراتب الحسد، وهي المرتبة الأولى؛ فالاستسلام لتلك الميول الشريرة من دون مقاومة بداية زحف الظلام على القلب، حيث تتعاظم الكراهية وتزداد الرغبة في زوال نعمة الآخرين بلا هوادة أو تمييز. وعند وصول النَّفس إلى تلك الدرجة المتقدِّمة من الحسد، يصبح علاج هذا المرض النَّفسي والروحي أمرًا بالغ الصعوبة، إذ تتجذر في القلب أمراض القسوة والغل، ويتضاءل فيها نور الإيمان والرَّحمة، ممَّا يجعل التحرر من هذا البلاء يحتاج إلى جهد نفسي عميق، ودعاء مستمر، وعمل صالح متواصل، ويمكن أن يجره إلى ارتكاب الجرائم وسفك الدماء. التاجر والقروي ينقل في كتب التاريخ، أنَّ تاجرًا كان يذهب إلى إحدى القرى المجاورة لمدينته، ويشتري منهم الدجاج والبيض، وفي أحد الأيَّام، أخذ التاجر معه مبلغًا كبيرًا؛ ليعطيه إلى أحد القرويين، وكان هذا الأخير يملك حقلًا، يبيع فيه الدجاج والبيض، فأعطاه النقود، وطلب منه أن يرسل له الدجاج والبيض إلى مكانه في المدينة، وحيث وصل ليلًا أراد أن ينام في بيت القروي، وفي الصباح يرجع إلى مدينته. فهيأ القروي للتاجر غرفة لكي ينام فيها، وعندما رجع القروي إلى زوجته، أخذ الشيطان يوسوس لهما بقتل التاجر، وأخذ أمواله، دون أن يرسلا الدجاج والبيض فقررا أن يقتلاه، ويدفناه في بيتهما. ولكن التاجر لم يستطع النوم في تلك الليلة، وفجأة ألقى بنظرة إلى الخارج، فرأى القروي وزوجته يحفرون قبرًا في وسط الدار، فخاف من الأمر كثيرًا، وأوجس ريبة من عملهما، فخرج من الغرفة بهدوء، وذهب إلى حظيرة الحيوانات، وأخفى نفسه بين الأغنام والبقر التي كان القروي يمتلكها. وبعد فترة، جاء ابن القروي، وكان مسافرًا خارج المنزل، ودخل البيت وذهب على رسله إلى غرفة الضيوف فرأى فراشًا معدًا ومهيئًا للنوم، فاستلقى فيه؛ لكي ينام ويستريح. وبعد ما أكمل القروي وزوجته حفر القبر، جاءا إلى غرفة الضيوف لقتل التاجر، فأخذ القروي سكينًا، وطعن الشخص النائم في الفراش فقتله، وكلُّ ظنه أنَّه التاجر، ولكن بعد أن انتبه إلى الجثة، وعرف أنَّها لولده فلم تقو رجلاه على حمله، فعض أصبع الندم ولات ساعة مندم، ودفن ابنه في الحفرة التي أعدها للتاجر، وعند منتصف الليل، خرج التاجر سرًا من مخبئه، وهرب نحو المدينة، وعندما وصل، أخبر الشرطة بتفاصيل الحادث، فجاءت الشرطة، وألقت القبض على القروي، وأخذت الأموال التي استلمها وأعادتها للتاجر، وبهذا العمل خسر القروي نفسه وولده، وماله، وسمعته، وسمعة عائلته، هذا في الدنيا، أمَّا جزاء الآخرة فأعظم وأشد، وكان كلُّ ذلك بفعل الحسد الذي أجج نار الطمع في قلبه، وقاده إلى هذا العمل الجنوني(11). المحور الثَّالث: مفاسد الحسد. إنَّ من أعظم ما عانته البشريَّة عبر تاريخها من مآسٍ ونكبات وصراعات، كان الحسد هو الجذر الخفي والدَّافع الأوَّل لكثير من تلك الفتن والمعاصي؛ فقد شهد أوَّل التاريخ الإنساني أبشع جريمة؛ حين قتل قابيل أخاه هابيل (عليه السلام)، لا لذنبٍ ارتكبه؛ وإنَّما حسدًا منه على قربه من الله (تعالى) وقبول قربانه، فكانت دماء البراءة أوَّل ما سُفك على الأرض بدافع الحسد والغيرة. وقبل ذلك، تجلَّى الحسد في أعتى صوره عندما أبى إبليس أن يسجد لآدم (عليه السلام) استكبارًا وحسدًا؛ إذ رأى نفسه أرفع مقامًا وأسمى منزلة، فاستكبر وأعرض عن أمر الله (عزَّ وجلَّ)، فسقط من علياء القرب الإلهي إلى دركات الطرد واللعن، وأصبح عدوًا مبينًا لبني آدم إلى يوم الدِّين. وهذا الحسد ذاته لم يكن حبيس التاريخ، وظلَّ يتكرر بأشكال شتَّى في واقع البشر، حيث نرى اليوم كيف يتحوَّل الحسد الكامن في القلوب إلى نزاعات مريرة، وصراعات مؤلمة، ووإراقة دماء. فكم من كلمة بدأت باختلاف، ثمَّ ما لبثت أن تحوّلت إلى عداوة وبغضاء؛ لأنَّ الحسد يُعمي البصيرة، ويُفسد المروءة، ويجرُّ صاحبه إلى مهاوي الظلم والبغي. ويبلغ الحسد ذروته المظلمة حين نفتح صفحات التاريخ ونرى ما جرى على أهل بيت النبوة (عليهم السلام)، من ظلم عظيم ومأساة موجعة، فقد غُصبت حقوقهم وحاولوا إطفاء أنوارهم؛ لا لشيء إلَّا لأنَّهم أهل الفضل والعلم والطهارة، فكان الحسد لما أولاهم الله (تعالى) من مكانة وكرامة، سببًا في شنِّ الحروب عليهم وقتل رجالهم وسبي نسائهم. إنَّهم صفوة الخلق وأئمة الحق، لكن القلوب التي أعماها الحسد لم تحتمل نورهم، فهاجمتهم بكل ضغائنها، منذ الهجوم على بيت مولاتنا الزهراء (عليها السلام) وتتابعت حتَّى وصلت إلى واقعة كربلاء الدَّامية، حيث قُتل الإمام الحسين (عليه السلام) عطشانًا مظلومًا، إلى سجون الأئمة وتضييقهم ومحاولات طمس ذكرهم، وكلُّ ذلك لم يكن إلَّا حسدًا على ما آتاهم الله (سبحانه) من فضله. إنَّ الحسد داءٌ قديم؛ لكنه لا يزال حيًّا في القلوب التي لم تُنقَّ من الأحقاد، وهو السبب في الكثير من الكوارث الإنسانيَّة، وما لم تُزكَّى النفوس وتُطَهَّر القلوب، فإنَّ سيرة هابيل ستتكرر بأشكال جديدة، وسيبقى الظلم حاضرًا ما دام الحسد مستبطنًا في الأرواح. إن الحسد وباء يفسد العلاقات ويزرع الفتن بين النَّاس، ويُبعدهم عن روح الإخوة والمحبَّة التي دعا إليها الإسلام، وإليك بعض أضرار الحسد: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أَخْوَفُ ما أَخافُ عَلى أُمَّتي أَنْ يَكْثُرَ لَهُمُ المالُ فَيَتَحاسَدونَ وَيَقْتَتِلونَ"(12). وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): "الْحَسَدُ شَرُّ الْأَمْرَاضِ"(13). وعنه (عليه السلام): "الْحَسُودُ كَثِيرُ الْحَسَرَاتِ مُتَضَاعِفُ السَّيِّئَاتِ"(14). وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "الْحَاسِدُ مُضِرٌّ بِنَفْسِهِ قَبْلَ انْ يَضُرَّ بِالَمحْسُودِ، كَابْلِيسِ اورِثَ بِحَسَدِهِ بِنَفْسِهِ اللَّعْنَةُ، وَلِآدَمَ عليه السلام الْاجْتِبَاءُ وَالْهُدَى"(15). وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثَمَرَةُ الْحَسَدِ شَقَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"(16). تلميذ الفضيل بن عياض روي أنَّ للفضيل بن عياض تلميذ يعدُّ أعلم تلامذته، وذات يوم مرض التِّلميذ... واشتدَّ مرضه... ووصل به الأمر إلى الفزع والاحتضار. وجاء الفضيل فجلس عند رأسه وأخذ يقرأ سورة يس... فإذا بذلك التِّلميذ المحتضر يقول له: لا تقرأ هذه السورة. واستجاب الأستاذ، وتوقف عن القراءة.. وقال لتلميذه: قل لا إله إلَّا الله. فقال التِّلميذ: لا أقولها؛ لأني أكرهها -والعياذ بالله- ثمَّ مات على هذه الحال... فعجب الفضيل من ذلك، ومضى إلى منزله، ولم يخرج منه، وفي الليل رأى تلميذه في المنام وهو سحب إلى جهنم. فقال له الفضيل: كنت أعلم تلامذتي فماذا جرى حتَّى سلبك الله المعرفة، وختم لك بسوء العاقبة؟ قال سبب ذلك ثلاثة أمور: الأوَّل: إنِّي كنت نمامًا. الثَّاني: إنِّي كنت حسودًا. الثَّالث: إنِّي كنت أشرب الخمر، وذلك بسبب مرض كان في، وقد أوصاني الطَّبيب بشرب قدح من الخمر في كلِّ عام وقال: إن لم تشرب فلا شفاء لعلتك، هذه الأمور الثَّلاثة كانت السبب في سوء عاقبتي(17). المحور الرَّابع: علاج الحسد. العلاج الأوَّل: العلاج العلمي؛ وهو أساس لا غنى عنه في رحلة التحرر من هذا المرض القلبي الخطير؛ ويقوم هذا العلاج على الفهم العميق للحسد بكلِّ جوانبه: أنواعه وصفاته وأسبابه، وقد تطرقنا إلى ذلك سابقًا بتفصيل. فمعرفة الإنسان لطبيعة الحسد، وكيف ينشأ ويتسلل إلى النَّفس، تمكِّنه من كشف مكامن الضعف التي تسمح لهذا الداء بالتمدد داخل القلب. كما أنَّ إدراك الفوارق الجوهريَّة بين الحسد والغبطة يفتح أمام النَّفس أبواب الرضا والسرور بنعم الله (تعالى) على الآخرين، ويبدد ظلام الحقد والمرارة. وهذا الفهم العلمي المتين هو القاعدة التي يُبنى عليها علاج النفس، ويُصقل بها سلاح الوعي، ليصبح الإنسان قادرًا على محاربة جذور الحسد، وتثبيت نفسه على درب المحبَّة والقبول والرضا، ممَّا يجعل هذا العلاج حجر الأساس في أي مسعى نحو تصحيح النفس وتنقيتها من أمراض القلب، وإذا تحقق ذلك حاز الخير في الدُّنيا والآخرة؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: "تَعَجَّلَ إِلَى رَبِّهِ مُوسَى فَرَأَى عَبْدًا فَغَبَطَهُ بِمَنْزِلَتِهِ مِنَ الْعَرْشِ، فَقَالَ: "يَا رَبِّ، مَنْ عَبْدُكَ هَذَا؟ فَقَالَ: إِذًا سَنُخْبِرُكَ مِنْ عَمَلِهِ بِثَلَاثٍ: كَانَ لَا يَحْسِدُ نَاسًا عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَكَانَ لَا يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ بِالنَّمِيمَةِ، وَكَانَ لَا يُعَقُّ وَالِدَيْهِ، فَقَالَ مُوسَى: وَهَلْ يُعَقُّ الْعَبْدُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسْتَسِبُّ لَهُمَا"(18). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "مَن تَرَكَ الحَسَدَ كانَت لَهُ المَحَبَّةُ عِندَ النّاسِ"(19). وعنه (عليه السلام): إِذَا مَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا --- حَيَاةً حُلْوَةَ الْمَحْيَا فَلَا تَحْسُدْ وَلَا تَبْخَلْ --- وَلَا تَحْرِصْ عَلَى الدُّنْيَا(20). ومن ضمن العلاجات العلميَّة التي تُعدُّ من أهم وسائل الشفاء؛ أن يعمِّق الإنسان إيمانه ويثبت يقينه التَّام بالله (تعالى)، وأن يوقن يقينًا لا شكَّ فيه أن لا إرادة فوق إرادة الله (سبحانه وتعالى). وهذا الإيمان الراسخ هو الدرع الحصين الذي يحمي القلب من شرور الحسد، إذ يُذكّر الإنسان بأنَّ كلَّ ما يصيبه أو يراه من نعم في الآخرين هو قدر الله (تعالى) المكتوب بحكمته ومشيئته، وأنَّ هذه النعم ليست منقوصة لمن ينالها، ولا تزول بغير إرادة الرحمن (سبحانه). وحين يتغلغل هذا اليقين في النفس، تتبدد بذور الحسد التي تنمو من الجهل والقلق والخوف من فقدان النعم، ويحل مكانها الاطمئنان والرضا، ويصبح الإنسان مطمئنًا إلى عدل الله (سبحانه) وحكمته، فلا يغتر بما لدى غيره، ولا يأسى على ما فاته، ويزداد تعلقًا بالخالق، وثقة بأنَّ ما عنده كافٍ. وهكذا يصبح الإيمان واليقين سببًا فعالًا في طرد الشكوك والحسد، ويقود النَّفس إلى مسيرة صفاء الروح، وراحة البال، وسلام القلب، فيصبح الحسد مرضًا من الماضي لا تأثير له على حاضر الإنسان ومستقبله؛ قال (تعالى): (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(21). العلاج الثَّاني: العلاج العملي؛ وهو الجانب الظاهر الذي ينعكس على البدن والسلوك الخارجي للإنسان؛ ومن هذه الأعمال: 1ـ إظهار المحبَّة للمحسود بدافع علاج هذا المرض. فهو سلاح قوي ومؤثِّر في مواجهة سموم الحسد ودوائه الحقيقي. وعندما ينبع هذا الحب من القلب، من دون رياء أو تصنع، فإنَّه يكسر جدار الكراهيَّة والحقد الذي يغلف النَّفس، ويبدد ظلال الغيرة والضغينة. والمحبَّة هنا هي فعل واضح يظهر في القول والفعل، وفي الدعم والاحترام، وفي الدعاء الصادق والخير المتبادل. ومن وظائف هذه المحبَّة أنَّها تُعيد ترتيب المشاعر في القلب، فتزرع بذور التسامح والرضا، وتفتح باب الصفاء والطمأنينة، وبدلًا من أن يتحوَّل القلب إلى مرآة تعكس سلبيَّة الحسد، يصبح فضاءً رحبًا للسعادة المشتركة، حيث يجد الإنسان لذة فرح غير أناني بنجاح الآخرين ونعمهم، ممَّا يقوّي الروح ويطهر النفس. 2ـ العمل خلاف النَّفس إذا دعتك إلى الحسد. من أهم خطوات العلاج العملي أيضًا أن يُجاهد الإنسان نفسه ويعمل خلاف ما تدعوه إليه مشاعره السلبيَّة من حسد وبغض؛ فعندما تهب النَّفس بما يميل إلى الحسد أو الضغينة تجاه الآخرين، يكون الواجب هو مقاومة هذه النزعات بكلِّ إرادة وعزم، وأن يختار الإنسان طريق الفضيلة والرَّحمة بدلًا من الانجراف خلف مشاعر السوء. والعمل خلاف النفس يعني الانتصار على الذات، والتزام قيم التسامح، حتَّى لو كان القلب يختلج بأحاسيس معاكسة؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ثلاثة لا ينجو منهن أحدٌ: الظَّنُّ، والطيَّرةُ، والحَسَدُ، وسأحدثكم بالمخرجِ من ذلكَ، إذا ظننت فلا تُحقَّق، ووإذا تَطَيَّرت فامضِ، وإذا حسدْتَ فلا تبغِ"(22). 3ـ احترام المحسود والدعاء له. من أسمى وأعمق مظاهر العلاج العملي للحسد أن يغمرك القلب بالرَّحمة تجاه المحسود، فتشعر تجاهه بمودة صادقة واحترام عميق، وتجله في مقامه وكرامته. وحين تترحم على الآخر تمتد تلك الرَّحمة لتشمل تفهم حاله، والتخفيف من أحكام النَّفس القاسية التي قد تدفع إلى الحسد، فتُبدل ذلك الشعور بطيب الذكر والدعاء الصادق بأن ينعم الله (تعالى) عليه بالبركة والزيادة. وهذا الفعل الإنساني النبيل يحرر المحسود من سطوة الحسد، ويطهر نفس المحسود أيضًا ويُشعر القلب بسعة ورحمة لا تحد، ويُضيء درب المحبَّة بين النَّاس. 4ـ اعرض أعمال المحسود الصَّالحة على نفسك، وعلى الآخرين. فتذكر دائمًا أن هذا الشخص ليس إلَّا عبدًا من عباد الله (تعالى)، قد أنعم الله (تعالى) عليه برحمته وفضله. وهذه التذكرة تُبعد عن القلب غبار الحسد، وتزرع مكانه شعورًا بالاحترام والتقدير لفضل الله (تعالى)، وتُذكر الإنسان بأنَّ النعم هي قدر إلهي مشكور يُحسن فيه العبد الظنَّ بالخالق (تعالى). وبذلك يتحوَّل موقفك من المحسود من موقف منافسة وحسد إلى موقف تقدير ورحمة، ويُصبح قلبك أكثر سعة وقبولًا لما قسمه الله (سبحانه)، ممَّا يُسهّل عليك تجاوز مشاعر الغيرة وتحويلها إلى طاقة إيجابيَّة تنعكس على حياتك وسلوكك. 5ـ أن يدعو المبتلى بهذا المرض أن يزيلها منه. لأن بذرة الحسد إن لم تعالج فإنَّها ستصبح مهلكة للإنسان؛ فالحسد كبذرة صغيرة، إذا لم تُنتزع في بداياتها، تنمو وتتكاثر حتَّى تصبح شجرة مهيمنة تظلل كلَّ جوانب النَّفس، وتؤدِّي إلى هلاك الإنسان نفسيًّا واجتماعيًّا. والدعاء هنا هو صرخة القلب، واستغاثة النفس إلى خالقها (سبحانه)، الذي بيده النفع والضر، والقدرة على شفاء كلِّ الأمراض مهما بلغت شدتها. وببركة الدعاء، وبإخلاص التوبة، وبإرادة التغيير، يُمكن للإنسان أن يستعيد صفاء قلبه، ويُزيح عن نفسه ظلال الحسد التي تعكر سكينته، ليصبح أكثر قربًا من الله (تعالى)، وأكثر سعادة وسلامًا في حياته. إنَّ الحسد مرض عميق يستوجب منَّا الوعي الكامل والعلاج الجذري. والانتصار على هذا الداء يبدأ بمعرفة أسبابه وصفاته، ثمَّ يتبعها جهد مستمر في تنقية النفس وتطهير القلب من شوائبه. وبالاعتماد على العلم والعمل، يصبح الطريق إلى الشفاء واضحًا وممهدًا، لننتقل من ظلام الحسد إلى نور الغبطة والمحبَّة الصادقة. شفاء من مرض خطير! قال: علمت اليوم أني شوفيت من مرض الحسد تمامًا وتمكنت من السَّيطرة على هواي، وتلجيمه بعد فترة صعبة من المجاهدة، والتَّرويض المستمر(23). فلنجعل من أنفسنا بيوتًا للأمل والرضا، ومن قلوبنا منارات للسلام، نعيش بها حياة تملؤها الطمأنينة والسَّعادة الحقيقيَّة، محصنين أنفسنا وأوطاننا من سموم الحسد ومآسيه. نسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يرزقنا صدق التوبة، وصفاء القلوب، وأن يجعلنا من الذين يغبطون ولا يحسدون. ..................................... الهوامش: 1. القاموس المحيط:ج1، ص298. 2. ينظر جامع السعادات:ج٢، ص١٤٨. 3. الكافي (دار الحديث):ج٣، ص748. 4. الأخلاق والآداب الإسلاميَّة: ص207. 5. الكافي (دار الحديث): ج٣، ص749. 6. غرر الحكم ودرر الكلم: ص79. 7. المصدر نفسه: ص68. 8. ينظر بحار الأنوار: ج٧٠، ص٢٤٠. 9. لا للحسد: ص20. 10. سورة النساء/ الآية:32. 11. لا للحسد: ص11. 12. نزهة النواظر وتنبيه الخواطر: ج1، ص115. 13. غرر الحكم ودرر الحكم: ص127. 14. المصدر نفسه: ص130. 15. مصباح الشريعة: ص104. 16. غرر الحكم ودرر الكلم: ص115. 17. منازل الآخرة: ص24. 18. الجامع في الحديث: ص173. 19. بحار الأنوار: ج74، ص238. 20. ديوان الإمام علي (عليه السلام): ص27. 21. سورة الأنعام/ الآية: 17. 22. نزهة النواظر وتنبيه الخواطر: ج1، ص115. 23. قصص وخواطر: ص198.

معايير النصر والهزيمة في حرب إسرائيل وإيران
معايير النصر والهزيمة في حرب إسرائيل وإيران

شبكة النبأ

timeمنذ 21 ساعات

  • سياسة
  • شبكة النبأ

معايير النصر والهزيمة في حرب إسرائيل وإيران

نتنياهو ينتصر إن جرّد طهران من مخالبها النووية وأنيابها البالستية، ويصبح نصره "مطلقاً" إن وضع مشروع "تغيير النظام" على سكة النفاذ، من خلال إطلاق ديناميات داخلية كفيلة بإنجاز المهمة وإن بعد حين. وإيران تنتصر، إن استعادت ميزان "التوازن والردع"، وإن بشروط أصعب من قبل، وإن حفظت الحد الأدنى من حقوقها النووية... ما زالت حرب إسرائيل على إيران، بعيدة عن خط النهاية، وربما لم تبلغ ذروتها بعد، فيما الأطراف المنخرطة فيها، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، وضعت لنفسها أهدافاً ذات سقوف عالية، وهي من الخطورة والأهمية بمكان، يصح معه القول إنها قد ترسم صورة المنطقة، بتوازنات القوى ودينامياتها، وربما خرائطها، لسنوات وعقود قادمة. من منظور إسرائيلي، تشفّ الضربة الافتتاحية الصاعقة لهذه الحرب، وما تكشّفت عنه من استعدادات مسبقة، عسكرية وسياسية، لوجستية واستخبارية، تعود لعقد أو عقدين من السنين، أن تل أبيب تخطط لما هو أبعد من مجرد إلحاق "إعاقة مزمنة" ببرنامج طهران النووي، وبما يتخطى تفكيك هذا البرنامج على الطريقة الليبية، إلى تجريد نظام الجمهورية الإسلامية من أنيابه ومخالبه البالستية و"الفرط صوتية"، لفتح باب الانتقال من استراتيجية "تغيير السياسات" إلى استراتيجية "تغيير النظام"... إسرائيل لم تعد تخفي أهداف حربها على إيران، ولم نعد بحاجة لتقارير استخبارية أو تقديرات محللين استراتيجيين للتعرف عليها، فهم يقولونها علناّ وعلى رؤوس الإشهاد، ومن الحكمة أخذ الأمر على محمل الجد، وعدم النوم على حرير التقديرات والرهانات الخائبة. إسرائيل تعاود "قص ونسخ"، بعضاً من تجارب حروبها في العرب والفلسطينيين في حربها الجارية على إيران: "الخداع الاستراتيجي"، "المباغتة والصعقة" كما في حزيران 1967، "قطع الرأس/الرؤوس" مع بدء الحرب كما في لبنان، "الخرق الأمني الاستراتيجي"... وهي تكثف في سبيل ذلك، من استخدام مفردات "الاستباحة" و"استراتيجية الضاحية"، بل وبدأت مبكراً الحديث عن "اليوم التالي" في إيران، وإجراء سلسلة من الاتصالات مع بقايا العهد الشاهنشاهي المخلوع، وفصائل معارضة مسلحة في الداخل والخارج، من انفصاليين و"مجاهدين" وغيرهم، وفي ظني أن "الموساد"، ما كان ليسجل كل هذه الاختراقات الميدانية، بالاعتماد على قواه الذاتية فقط، وإنما باللجوء إلى هذه القوى، ذات الامتداد والقدرة الأوسع على التحرك في الداخل الإيراني. لا يعني ذلك بالطبع، أن كل ما تتمناه إسرائيل ستدركه...فالمسألة من قبل ومن بعد، رهنٌ بتوفر جملة من الشروط، التي قد تعمق الفجوة بين "حسابات الحقل وحسابات البيدر"... أولها وأهمها؛ قدرة إيران على الصمود واسترداد زمام المبادرة ومدى نجاحها في إعادة بناء ميزان "الردع والتوازن" في علاقتها بإسرائيل...وثانيها؛ استعداد الولايات المتحدة على وجه التحديد، لتوسيع دائرة انخراطها في هذه الحرب، ومن بوابة استهداف ما تعجز آلة الحرب الإسرائيلية عن استهدافه، وإلحاق أقدح الضرر بالمواقع الحصينة التي ينهض عليها المشروع النووي الإيراني. حتى الآن، والحرب ما تزال في يومها الرابع، يبدو أن كلا الشرطين غير متوفرين لحكومة اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفاً، فلا طهران رفعت راية بيضاء، بل على النقيض من ذلك، تماسكت وصمدت وتعافت مبكراً، وشرعت في استعادة "التوازن والردع"، ولا واشنطن "تُجاري" تل أبيب في سقوف أهدافها وتوقعاتها المرتفعة للغاية، وترتضي بما هو دون ذلك، مع أنها لن تمانع في اللحاق بتل أبيب بل واستباقها للعمل على تحقيق هذه الأهداف، إن تأكد لها للحظة واحدة، أن ثمة فرصة لتحقيقها، وتحقيقها سريعاً، وبقدر معقول من الكلف العسكرية والاقتصادية. من منظور أمريكي، سبق لواشنطن أن ارتضت باحتفاظ طهران بدائرة تخصيب خفيض (3.6 بالمئة) لليورانيوم على أرضها، كافٍ للاستخدامات السلمية والمدنية، تحت وابل من شروط التحقق والتفتيش والرقابة...تلكم كانت مضامين اتفاق فيينا في 2015، قبل أن تنقلب إدارة ترامب الأولى على الاتفاق وتنسحب منها، وقبل أن يعاود ترامب، في ولايته الثانية، الحديث عن "صفر تخصيب" على الأرض الإيرانية... الولايات المتحدة تشاطر إسرائيل "قلقها" من برنامج إيران الصاروخي، واستتباعاً من "دورها المزعزع للاستقرار في المنطقة"، تلك الجملة التي صارت "لازمة" في خطاب السياسة الخارجية الأمريكية، ودول أوروبية عدة على حد سواء. واشنطن التي جاء رئيسها بوعود السلام في كل مكان، وعلى مختلف الجبهات والأزمات، مدفوعاً بـ"حلم نوبل" وجائزة السلام الأرفع، ليست راغبة في "التورط" بحرب كبرى في الشرق الأوسط، ولا تقيم "الوزن ذاته" لمخاوف تل أبيب وهواجسها، بيد أن أداء رئيسها المُتسم بالنزق والخفة، واحياناً بالجهل والتبسيط لأعقد الأزمات وأكثرها حساسية وتشابكاً مع الحاضر والتاريخ والثقافة والجيوبوليتكس، فلا يكف عن إطلاق وابل الوعيد والتهديد، وفرض المهل الزمنية الجزافية تعسفاً، أفضى إلى الفشل في إدارة معظم هذه الملفات، من غزة إلى أوكرانيا، واليوم إيران وإسرائيل والاستعاضة عن الفشل، بادعاء النجاح في منع الحروب أو إيقافها على جبهات أخرى: الباكستان والهند، وأخيراً مصر وأثيوبيا (؟!!). وإذا كانت إدارة ترامب، قد أظهرت وهي تعالج بعض أزمات إقليمنا، قدراً من "الابتعاد" عن أولويات السياسة الإسرائيلية وحسابات نتنياهو، كما في مقاربة الملف السوري والانفتاح على النظام الجديد، وكما في شق قنوات اتصال مباشر مع حماس بالضد من الرغبة الإسرائيلية، وإبرام اتفاق مع جماعة أنصار الله في اليمن، والخروج من "الحرب العبثية" التي شنها على هذا البلد المنهك بحروبه وحروب الآخرين عليه... إلا أن هذه الإدارة، تعود فتؤكد التصاقها بالأجندة الإسرائيلية في قضايا مفصلية أكثر أهمية، وبالذات في ملفي إيران وغزة، حتى وإن كانت لها "تفضيلاتها" المختلفة عن أولويات نتنياهو، إلا أنها دائماً ما تعود لضبط خطواتها على الإيقاع الإسرائيلي. هل تدخل واشنطن الحرب الإسرائيلية على إيران من بوابة القاذفات الاستراتيجية والقنابل الأكثر فتكاً وتدميراً في العالم؟ سؤال لا يبارح مخيلة وأذهان السياسيين والمراقبين في المنطقة والعالم، وفي ظني أنه من سوء التقدير وقلة الحكمة، إسقاط هذا "السيناريو"، على أننا نرى أنه سيتقدم في واحدة من حالتين أو كلتاهما: الأولى؛ إن خرجت ردود إيران وحلفائها على العدوان الإسرائيلي عن دائرة السيطرة، كأن يجري استهداف قواعد وأصول ومصالح أمريكية في الإقليم، عندها سيصبح التدخل واسع النطاق، من باب "تحصيل الحاصل"، وسيكون مدعوماً بأوسع شرائح الطيف القيادي والمؤسسي الأمريكي، وسيحظى بدعم أوروبي يبدو مضموناً مسبقاً، خصوصاً من دول "الترويكا" الثلاث: لندن، باريس وبرلين. والثانية؛ إن شعرت واشنطن أن تل أبيب تتعرض لخطر حقيقي، يتعدى ميزان الخسائر اليومية التي نراقبها ونتابعها حتى الآن، وإن تبدّى لها، إن هذه الحرب، ستنتهي بهزيمة لإسرائيل، تبدد مكتسبات الأشهر العشرين الفائتة، وتعيد الاعتبار لمحور طهران الذي أصيب في أكثر من مقتل إثر الحروب الإسرائيلية متعددة الجبهات والمسارات التي أعقبت السابع من أكتوبر 2023... عندها، سيكون التدخل الأمريكي واسع النطاق، هو التجسيد العملي لتعهدات ترامب وإدارته، بل ومختلف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، الالتزام بأمن إسرائيل والدفاع عنها وحفظ تفوقها. يملي ذلك على طهران وحلفائها، النظر لحسابات السياسة والميدان، من هذا المنظور المعقد، وتفادي سوء التقدير، وفي ظني، إنه خلف دخان التصريحات النارية لبعض القادة والمسؤولين الإيرانيين، ثمة "عقل إيراني بارد"، لا شك أنه منهمك الآن، في إجراء مثل هذه الحسابات والتمارين. من منظور إيراني؛ ثمة أولوية قصوى لترميم "الخراب" الذي ألحقته إسرائيل بمنظومة القيادة والسيطرة والتحكم، إذ نجحت تل أبيب في "قطع رأس" الجهازين الأمني والعسكري، واختطفت أرواح نخبة من علماء طهران ومهندسيها، تليها أولوية استعادة الهيبة وبناء "التوازن والردع" في مواجهة مشروع يستهدف تحويل طهران إلى ضاحية جنوبية جديدة، وأصفهان إلى "خانيونس 2"... لا صوت يعلو في إيران، على صوت الثأر والانتقام الذي رُفعت راياته الحمراء فوق مآذن المساجد والحسينيات... لا مطرح لمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل تحت عنوان "وقف النار"، ولا استعجال في استئناف المفاوضات مع شريك إسرائيل في هذه الحرب، إدارة ترامب... والأهم من كل هذا وذاك، لا تنازل عن الحد الأدنى الذي قبلت به في الجولات التفاوضية الخمس قبل بدء الحرب الإسرائيلية عليها: التخصيب بنسب 3.6 بالمئة على الأرض الإيرانية والاعتراف بحقوق طهران النووية المشروعة في الاستخدام المدني – السلمي للطاقة النووية، ولا بحث في مشروعها الصاروخي أو دورها الإقليمي. أي تنازل عن هذه العناوين / الحقوق، يعني أن إسرائيل قد انتصرت في فرض إملاءاتها عليها، وسيعني أيضاً، أن ترامب الذي سعى في استخدام "الهراوة الإسرائيلية" لتذليل عقبة الرفض الإيراني لإملاءاته، قد سجل فوزاً ساحقاً عليها... يمكن لإيران أن تذهب بعيداً في تقديم الضمانات والتطمينات بشأن سلمية ومدنية برنامجها النووي، وإن تُضَمّن أي اتفاق قادم ما يكفي من شروط وقواعد الشفافية والتحقق والتفتيش والرقابة، نظير رفع العقوبات، أو الجزء الأكبر منها، وبخلاف ذلك، تكون إسرائيل قد نجحت في تمكين ترامب، من إعلان الفوز لـ"دبلوماسية القوة" التي استعاض بها عن "قوة الدبلوماسية". الحرب ما زالت في بداياتها، ومن المجازفة الذهاب إلى تقديرات بشأن خواتيمها، على أننا منذ الآن، نستطيع أن نعرّف عناصر النصر والهزيمة فيها: ترامب ينتصر إن أجبر إيران على تفكيك برنامجها النووي والإبقاء على هياكل لا قيمة لها بذاتها، بل بسلاسل التوريد من الخارج، المتحكم بها غالباً... نتنياهو ينتصر إن جرّد طهران من مخالبها النووية وأنيابها البالستية، ويصبح نصره "مطلقاً" إن وضع مشروع "تغيير النظام" على سكة النفاذ، من خلال إطلاق ديناميات داخلية كفيلة بإنجاز المهمة وإن بعد حين... وإيران تنتصر، إن استعادت ميزان "التوازن والردع"، وإن بشروط أصعب من قبل، وإن حفظت الحد الأدنى من حقوقها النووية كما عرّفتها هي بذاتها، في مئات الخطابات والمواقف والمراسلات. الحرب مستمرة وللحديث صلة.

القيَم المنسية
القيَم المنسية

شبكة النبأ

timeمنذ 21 ساعات

  • أعمال
  • شبكة النبأ

القيَم المنسية

معظم الشباب لا يمتلكون خبرة الحياة التي تضع بينهم وبين التلاعب والخداع حواجز شاهقة من الحكمة والتعقّل، كما أننا ربما لا نقدم لشبابنا ما يحتاجون له من دروس ومحاضرات وندوات وكتب تربوية، تنمّي في نفوسهم وعقولهم منظومة من القيم الصحيحة التي تحميهم من صدمة الاستهلاك القائم على الترويج المغري... في كل مجتمع هناك قيَم أصيلة وأخرى وافدة، ويكمن الخطر في الوافدة أو الدخيلة، حيث يتعمّد الغرب وسياسة الشركات الكبرى على ترويج بضاعتهم ومنتجاتهم، في أساليب تنطوي على الكثير من المراوغة والخداع والإغراء الخبيث، الذي يقود أفراد المجتمع وخصوصا فئة الشباب إلى حالة من الدهشة إزاء تلك السلع، مما يجعلهم مندفعين بقوة تحت تأثير أشكال العرض الغريبة لهذه السلع، فينتشر حب كبير للاقتناء، وتسود موجة من الاستهلاك المفرط حتى تكون الربحية كبيرة. ويتم إشاعة نوع من القيم تشجّع على الميوعة والانحلال، وتعدّ هذه السلوكيات نوعا من التطور، لكنها في الحقيقة تمثل ثقافة غريبة تريد أن تأخذ محل الثقافة الأم، وتهمّش القيم الأصيلة فتغدو منسية لا أحد يتذكرها، وقلة من أفراد المجتمع يتمسكون بها ويؤدون واجباتهم في ضوئها، وتبقى قيم منسية رغم أصالتها. لهذا هنالك اليوم مجتمعات (ومن بينها مجتمعنا) تعاني من حالة الافتقار لمنظومة قيم سليمة وقوية تعينهم وتساعدهم على مواجهة عالمنا المعاصر، الذي ينقصه الاهتمام بالقيم والأخلاق والطاقة المعنوية، وفي نفس الوقت تشغله التوافه وصغائر الأمور، لاسيما في مجال الاستهلاك المفرط، والانشغال بالأشكال الغريبة للسلع المصنّعة في الغرب، والمهيّأة خصيصا لإشغال الشباب بما يسمى بالموديلات الحديثة أو بـ (المودة)، فيهفو الشباب على هذه السلع كأنهم في حالة عجز تام تجاه تلك السلع. فنجد تفوقا وهيمنة للميول المادية عند الشباب، والسبب هو ذلك التدفق الهائل للقيم الدخيلة، في مقابل تراجع غريب للقيم الأصيلة، وهذا ما لا يقبله كل إنسان يمتلك عقلا رصينا وحكمة ومعرفة واعية، لكن شبابنا اليوم يواجهون بالفعل صدمة من نوع مختلف، لأنهم وقعوا اليوم تحت تأثير طرائق العرض المدروسة جيدا من قبل الشركات التي لا يهمها شيئا سوى الربح، فتعم إلى الخداع والتضليل والأكاذيب عبر الترويج بطريقة العرض المغري. قلة المحاضرات والندوات التربوية وكما هو معلوم، معظم الشباب لا يمتلكون خبرة الحياة التي تضع بينهم وبين التلاعب والخداع حواجز شاهقة من الحكمة والتعقّل، كما أننا ربما لا نقدم لشبابنا ما يحتاجون له من دروس ومحاضرات وندوات وكتب تربوية، تنمّي في نفوسهم وعقولهم منظومة من القيم الصحيحة التي تحميهم من صدمة الاستهلاك القائم على الترويج المغري عبر أساليب ديدنها الكذب والخداع، والمهم لديها أن تدمّر القيم الأصيلة، وتزج في محلها القيم البديلة الوافدة من الغرب. يؤكد عدد من الشباب الملتزمين، أنهم لاحظوا إقبالا شديدا لأقرانهم على الأسواق، وخصوصا المولات الكبيرة، ولاحظوا أيضا حالة الدهشة التي تهيمن على هؤلاء الشباب تجاه العديد من السلع الاستهلاكية، ورغبتهم الكبيرة باقتنائها، على الرغم من أنهم ليسوا بحاجة ماسّة لها، وعندما وجهنا لهم السؤال التالي: لماذا تشتري هذه السلعة وأنت غير محتاج لها؟ كانت إجابتهم غير مقنعة، وبعضهم تهرَّب من الإجابة، فيما قال آخرون بأنهم يستحقون العيش برفاهية، والحقيقة هذه الإجابات لم تكن في محلها بالمطلق، فهؤلاء الشباب يعتقدون بأن شراء هذه السلعة أو تلك يملأ لهم فراغ الرغبات التي تجتاح نفوسهم وعقولهم، وهم يظنون بأن الحصول على هذه السلع يجعلهم أكثر سعادة، ولم يخطر في بالهم أنهم ضحية تخطيط جهنمي لشركات وقوى وثقافات تسعى لتدمير عقولهم وقيمهم. ويمكن توصيف هذه العملية بأنها نوع من غسيل الدماغ، أي محو القديم وترسيخ الجديد بدلا منه، فيتم محو القيم الأصيلة وفي نفس الوقت تتم تعبئة عقولهم بالقيم الدخيلة، وتكون وسيلتهم في ذلك إشغال الشباب بالمظاهر الشكلية المادية، وعرضها وفق أساليب جاذبة، هدفها خلخلة منظومة القيم التي أخذها الشاب من بيئته الاجتماعية ومن ثقافته الدينية والأسرية والمدرسية. خطوات مهمة لتحصين المجتمع وحينئذ يتم مسح القيم التي حصل عليها الشاب في مراحل النشوء الأولى، فمثلا يتم ضرب التربية الدينية التي أخذها الشاب من والدية عندما كان طفلا، أو أخذها من معلمه في مرحلة الدراسة الابتدائية، وهكذا شيئا فشيئا، يتحقق هدف أصحاب الخطط المسبقة لتدمير منظومة القيم الأصيلة عند الشباب، لهذا عندما لا يفتح هؤلاء الشباب عقولهم ويستخدمون ذكاءهم، فإنهم يقعون تحت تأثير القيم الخبيثة الوافدة. أما المطلوب من شبابنا، ومن الجهات المعنية بتأمينهم من هجومات القيم الخبيثة، فهو ما يلي: - تحصين الشباب بالوعي والأفكار والثقافة والدين. - تدريب الشباب على الصبر والتحمل. - عدم خضوع الشباب لصدمة القيم الدخيلة الكاذبة. - توعية الشباب بأساليب العرض، وإغراءات السلع من خلال العرض الصادم. - تقديم التحذيرات الصحيحة حول الاستهلاك المفرط. - تقديم البدائل المناسبة للشباب، وحمايتهم من الشعور بأنهم محرومون. بالطبع يتطلب النجاح في هذا المسعى، تهيئة جيد للمستلزمات المطلوبة، والتي تمنح الشباب رؤية واضحة عما يجري اليوم في عالم اليوم من تخطيط مسبق لتشويه القيم الاصيلة للشعوب، ودفعهم نحو العالم الاستهلاكي بقوة، وهذه القوى الدولية والشركات الربحية تعلم علم اليقين بأن الشباب والشعوب المحصنة بالقيم الأصيلة غير قابلة للخداع. لهذا تبقى منظومة القيم الأصيلة في كامل حضورها، وتأثيرها، وتفشل معها جميع المحاولات التي تريد محو هذه المنظومة المتأصلة في نفوس الناس ومن بينهم وأهمهم شريحة الشباب التي تشكل القيمة الحضورية الفاعلة للمجتمع بأجمعه، لذا فإن حماية عقول الشباب من القيم الدخيلة، هي حماية للمجتمع كله، وهذا هو الهدف الأسمى والأهم.

لماذا لا تلجأ إسرائيل للسلاح النووي؟
لماذا لا تلجأ إسرائيل للسلاح النووي؟

شبكة النبأ

timeمنذ 21 ساعات

  • سياسة
  • شبكة النبأ

لماذا لا تلجأ إسرائيل للسلاح النووي؟

فهل سيتكرر الأمر في حرب إيران وإسرائيل وتتدخل واشنطن والغرب عموماً لوقف الحرب وإنقاذ دولة إسرائيل قبل أن تنزلق هذه الأخيرة وتلجأ للسلاح النووي؟ وهل سيؤدي التدخل الأمريكي الأطلسي الى وقف الحرب وتسوية سياسية بين الطرفين على طريقة ما جرى مع مصر؟ أم الحل سيكون كنموذج العراق أي... بالرغم من استمرار إسرائيل في إنكار امتلاكها للسلاح النووي ورفضها دخول مراقبين دوليين تابعين للوكالة الدولية للطاقة النووية لأراضيها إلا أن العالم يعرف أن إسرائيل دولة نووية وقد امتلكت أول مفاعل نووي من فرنسا في شهر أكتوبر عام 1957 وأجرت تفجيراً نووياً في دولة جنوب أفريقيا العنصرية عام 1979، ويعتبر مفاعل ديمونا في النقب أشهر مفاعلها النووية ولكنه ليس الوحيد. وقد أصدر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام تقريراً قال فيه (إن إسرائيل لديها حوالي 90 رأسا نوويا جاهزا، منها 50 رأس حربي مجهز للإيصال بواسطة صواريخ أريحا II الباليستية)، وبعض تقارير مراكز أبحاث غربية ذكرت إن إسرائيل تمتلك ما بين ٨٠ و٤٠٠ قنبلة نووية. مع استمرار الغموض حول نوايا الطرفين في المجال النووي، ونقصد هنا الغموض حول حقيقة ما إن كانت إيران تسعى لتطوير قدراتها في التخصيب الى درجة إنتاج قنابل نووية، وغموض نوايا إسرائيل وهدفها من الحرب وهو غموض تشوبه كثير من الأكاذيب مثل اكاذيبها حول الحرب على قطاع غزة وتناقض التصريحات والتباسها حتى بين ما تصرح به إسرائيل وتصريحات وتغريدات الرئيس الأمريكي ترامب، كل ذلك يستحضر التساؤلات التالية: السؤال الأول: لماذا تدخل إيران الحرب مع إسرائيل بهذه القوة مع معرفتها أن إسرائيل تملك سلاحاً نوويا وقد بررت حقها بامتلاك مفاعل نووية لتخصيب اليورانيوم بأن إسرائيل تملك سلاحاً نووياً وليس فقط مفاعل نووية سلمية؟ ومع ذلك دخلت الحرب مع اسرائيل واستهدفتها بوابل من الصواريخ البالستية والفوق صوتية المتطورة وألحقت بها خسائر كبيرة دون خوف من رد نووي إسرائيلي! السؤال الثاني: لماذا لا تلجأ إسرائيل للسلاح النووي إذا كان وجودها مهدد أو كما يقول نتنياهو إنه يخوض حربا مصيرية؟ ومن المعروف أن الدول تسعى لامتلاك السلاح النووي ليس للمباهاة بل للاستعمال عندما يتعرض وجودها القومي ومصالحها الاستراتيجية للخطر ولا تستطيع قدراتها الأخرى وأسلحتها التقليدية من حمايتها وردع المعتدي! السؤال الثالث: إن كان عدم لجوء دولة الكيان الصهيوني للسلاح النووي لا يرجع لاحترامها للقانون الدولي والشرعية الدولية وهي التي انتهكت كل القوانين والشرائع الدولية في حربها على قطاع غزة وما ارتكبت من مجازر، فهل سبب عدم اللجوء يعود لأسباب جيوسياسية لها علاقة بقرب المسافة بين إيران ودول الخليج خليقة واشنطن وتواجد قواعد وجنود أمريكيين في المنطقة؟ السؤال الرابع: هل بالفعل أن هدف إسرائيل من حربها على إيران هو استهداف قدراتها النووية؟ أم للحرب أهداف أخرى استراتيجية قد تكون القدرات النووية المُفترضة إحداها ولكن هناك أهداف أخرى أكثر أهمية لإسرائيل؟ السؤال الخامس: ما هي العلاقة بين العدوان الإسرائيلي على إيران وحرب الإبادة على قطاع غزة ومشروع الشرق الأوسط الجديد وأقوال نتنياهو أنه سيغير جغرافية الشرق الأوسط وأن هذا الأخير بعد الحرب لن يكون كما قبلها؟ السؤال السادس : تعرضت اسرائيل لمرتين لخطر يهدد وجودها، المرة الأولى في حرب أكتوبر ١٩٧٣ عندما حقق الجيش المصري انجازاً كبيراً باقتحام خط بارليف والاندفاع داخل سيناء، والمرة الثانية في حرب الخليج الثانية عندما تم قصف إسرائيل في يناير 1991 بالصواريخ البالستية من طرف عراق صدام حسين، وفي الحالتين تدخلت واشنطن عسكرياً وأنقذت إسرائيل وحالت دون استعمال السلاح النووي، في المرة الأولى أدى التدخل الأمريكي إلى مفاوضات مصرية إسرائيلية وتوقيع اتفاق سلام بين الطرفين (اتفاقية كامب ديفيد 1979) بينما أدى التدخل الأمريكي في الحالة الثانية إلى تدمير العراق ثم احتلاله واعدام صدام حسين. فهل سيتكرر الأمر في حرب إيران وإسرائيل وتتدخل واشنطن والغرب عموماً لوقف الحرب وإنقاذ دولة إسرائيل قبل أن تنزلق هذه الأخيرة وتلجأ للسلاح النووي؟ وهل سيؤدي التدخل الأمريكي الأطلسي الى وقف الحرب وتسوية سياسية بين الطرفين على طريقة ما جرى مع مصر؟ أم الحل سيكون كنموذج العراق أي تدمير ايران وتغيير النظام السياسي وربما اغتيال المرشد الأعلى كما هدد نتنياهو؟

استراتيجية تحويل الانتباه: بين المنفعة والضرر
استراتيجية تحويل الانتباه: بين المنفعة والضرر

شبكة النبأ

timeمنذ 21 ساعات

  • أعمال
  • شبكة النبأ

استراتيجية تحويل الانتباه: بين المنفعة والضرر

استراتيجية الإلهاء تمثل قالبا واضحا لطريقة إدارة الحكومة العراقية الحالية لأزماتها، من خلال تبديل بؤر الاهتمام بين الرواتب، تغيرات السوق، الخدمات، الفساد، التنمية، والمؤسسات، وللخروج من هذا النمط، لا يكفي الإعلان عن النوايا، بل يلزم إعادة هيكلة حقيقية لتعامل الحكومة مع الملفات المهمة، لأن المواطن العراقي يطالب بحقوقه بصدق... استراتيجية تحويل الانتباه من الأدوات المهمة التي تستخدمها الحكومات للتغطية على فشلها تارة، ولكسب الوقت لحين الوصول الى هدف محدد تارة أخرى، وقد تكون الحكومة العراقية من أكثر الحكومات استفادة من هذه الاستراتيجية؛ نظرا لكثرة المشاكل الداخلية على المستويات السياسية والاقتصادية والخدمية ...الخ. ويعرف تحويل الانتباه بانه "محاولة أو مناورة من جهة أو مسؤول لصرف نظر أو انتباه الفرد عما يدور حوله من مخططات، قد لا تعود عليه بالنفع في الكثير من الأحيان"، اذ تعتبر هذه الاستراتيجية او الطريقة هي الأكثر مناسبة في التعامل مع المشكلات الداخلية العراقية. العراق من البلدان الوّلادة للمشكلات على الصعد كافة، ملف التعليم بحاجة الى مراجعة لجميع تفاصيله ومراحله من التعليم الابتدائي وصولا الى المراحل الجامعية والدراسة العليا، فهو يعاني من مشاكل جذرية في المناهج الدراسية وطرق التدريس وغيرها من الجوانب التي تجعل من التعليم في العراق متأخر كثيرا. ولا يقل دمارا القطاع الصحي وما تعانيه المستشفيات من نقص حاد في الأجهزة والمستلزمات الطبية، خير دليل على ترهل هذا القطاع، وكذا قطاع الخدمات والملف الأمني والكهرباء، جميع هذه الملفات تجبر الحكومة على اتباع سياسية الالهاء التي تحوّل بواسطتها الرأي العام الى قضية اقل أهمية وربما تافهة جدا. كلما نُقبل على فصل الصيف يكون حديث الشارع العراقي حول الكهرباء وكيف سيمر هذا الفصل مع قلة التجهيز، وبهذه الاثناء والأجواء المشحونة تحاول الحكومة افتعال قضية موازية كأن يكون الحديث عن زيادة في الرواتب، او اعفاء شريحة معينة من الضرائب وغيرها من الطرق التي تأتي ضمن التحويل الكامل لحديث الرأي العام. ويصف المفكر الأمريكي المعروف نعومي تشومسكي، هذه الاستراتيجية بأنها إحدى الأدوات الرئيسية للسيطرة الاجتماعية عبر تحويل انتباه الجمهور عن القضايا المهمة والتغيرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية من خلال وابل متواصل من الترفيه والمعلومات التافهة، والهدف منها هو جعل الناس مشغولين ... مشغولين جداً لدرجة لا يجدون معها وقتاً للتفكير فيما يدور حولهم. تاريخ العراق مليء بالأمثلة التي تؤكد ان كل قضية يتم اثارتها في توقيت محدد، يوجد قصد وغاية في تحريكها، وبهذا يكون المجال السياسي العراقي هو المجال الأول لاستخدام هذه الاستراتيجية المفيدة بعض الأحيان والضارة في أحيان كثيرة. ومن صور الضرر الذي يحدثه كثرة استخدام (استراتيجية تحويل الانتباه)، هو ان الجمهور الداخلي وتحديدا في العراق وخلال السنوات الأخيرة، أصبح جمهورا واعيا وذكيا جدا، يعرف ابعاد التحركات وأهدافها، ولهذا يكون التركيز على سياسية الالهاء من المضرات في الموقف السياسي بالنسبة للحكومة. والأمثلة كثيرة في كل مجالات الحياة التي نعيشها، وما يستخدم فيها من تصرفات تنم بطريقة او بأخرى عن عجز حكومي لحل الإشكاليات التي تراكمت كثيرا في السنوات الأخيرة، ولعل الحكومات المتعاقبة عرفت او تعرف جيدا ان كل ما تقوم به من أفعال او تصرفات هي معلومة الغاية من قبل الجمهور. استراتيجية الإلهاء تمثل قالبا واضحا لطريقة إدارة الحكومة العراقية الحالية لأزماتها، من خلال تبديل بؤر الاهتمام بين الرواتب، تغيرات السوق، الخدمات، الفساد، التنمية، والمؤسسات، وللخروج من هذا النمط، لا يكفي الإعلان عن النوايا، بل يلزم إعادة هيكلة حقيقية لتعامل الحكومة مع الملفات المهمة، لأن المواطن العراقي يطالب بحقوقه بصدق، ولكن مطالبه تضيع في دوامة الاتهامات والتسقيطات.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store